البداياتُ عادة ما تكونُ صعبة , وإن لمْ تكنْ صعبة فتلكَ
ليستْ البداية , هذا ما أدركتهُ مع بداية العامْ الجديدْ ! ولأنني أقضيه للسنة
الثالثة خارج الوطنْ , إعتدت أنْ يكونَ صعباً كما في كُل مرة , رغم أنني تعهدتُ ألا
ألتفتَ للوراء وأنْ أسمي وطني خدعة في محاولة مني للتملص منْ عاداته البشعة
وأفكاره المتخلفة .. , الجو صاخبٌ كما في كُل عامْ , والزينة تطوق كافة الشوارعْ ,
وفي خضمْ كلْ تلك الزينة وتشابه المنازلْ يكونُ من الصعب عليَّ انْ أميّز منزلنا ,
خرجتُ ليلة الميلادْ للتنزهُ في الحديقة المجاورة له , لا أذكر مقدار الوقتِ
الذي مكثته هناكَ أحملقْ في الفراغْ تارة وفي وجه ذلك العجوز البائسْ تارة أخرى !,
كان يُمسكُ بزجاجة الجعة متكئاً على أحد الكراسي سارحاً في الفراغْ , فكرتُ في أن
أسأله عنْ السبب الذي يبقيهِ وحيداً خارج منزله في هذا البردْ القارسْ , لكنْ
سرعان ما خُيّل لي مظهرُ شيخٍ في بلدي أسأله عنْ حاله فيكشُر وينقضُ عليّ بالإجابة القاضية " وإنتِ شن دخلكْ ؟ " , ولذا قررتُ عدمَ سؤالهْ , ولمْ أدركْ السبب الذي يجعل كوابيس الوطنْ تلاحقني كُل هذه المدة ! ربما يكونُ الإنتماء
الذي حدثنا عنه والدي الليلة الماضية هو السبب , رُغم انّي قاطعتُ حديثهُ قائلة بأن الإنتماء
لا يرتبطْ بالمكانْ بقدر ما يرتبطْ بالأشخاصْ
المصاحبينْ له , ومتى كان هؤلاء الأشخاصُ بجوارك فلنْ تشعرَ بفقدك لإنتمائك ! , أظن بأنني كنتُ مخطئة , وهذا درسٌ أخر تعلمتهُ من حملقتي بذلك العجوز ! , الوطنْ
لا يعني الاشخاصْ ! , الوطنْ ترابٌ نُكونُ منهْ ولا نشتهي العودة لغيرهْ , الوطن
عقيدة نحاولُ الكُفر بها لكنْ لفراغٍ ما في انفسنا نعودُ إليها ! .
في طريقْ عودتي إلى المنزلْ أضعتُ الخريطة ! الشوارعْ
متشابهة , وكُل البيوتُ مزخرفة بالزينة , ربما لمْ أشّغلْ ذاكرتي بالقدر الكافي
لأكتشف أن منزلنا يقبعْ في الشارع المجاور للحديقة , وربما كان السبب هو شعوري برغبة
في المكوثِ أكثر خارج المنزلْ , رغبة في التجولْ , و في سماعْ صوت الأناشيدْ
الصادحة منْ الكنائسْ , في مراقبة أفواجْ الحمامْ المُلتفة حول عجوزْ تطعهمْ خُبز
يديها , كُل تلكَ الصور كانتْ تستفزني
للبقاءْ , لكنَ عاداتْ الوقتْ لمْ تتغيرْ , وكان عليّ العودة قبل الساعة التاسعة .
هوَذا المنزلْ , ببابْ أحمرْ اللونْ تزينهُ طاقّة ذهبية ,
وقرميد بني اللونْ وسقف مثلثْ الشكلْ تناسب عبر شقوقه قطراتْ الماءْ برفق عابرة البوابة
عبر مجرى مخصص لذلكْ , تعلو السقف مدخنة صغيرة يتربعُ على عرشها عُشُ صغيرْ مهجورْ
, لطالما حلمتُ بالعيشْ في منزل مشابهْ لهْ , يُشبه المنازلَ التي كُنت أراها في
مسلسلاتْ الكرتونْ الأمريكية , دخلتُ المنزلَ والبسمة تخطُ عرضَ وجهي , سارعتُ في
نزع حذائي والصعودْ للأعلى , إلا أنّ صوت والدي استوقفني قائلاً :
- - أما من " السلامْ عليكمْ " ! ؟
- - هاي دادي ! , أعذرني , أنا على عجلة من أمري , لدّي العديد
من الواجباتْ لأنجزها !
- - حسناً , تذكري انْ ترددي السلامْ دائماً ! لا أعرفُ لما
يتملص هذا الجيل من عاداتهْ ! ولما تفضلونَ لوي ألسنتكمْ بـ " هايْ " و
" هالو " بدلاً من السلام عليكمْ .
وأخذ يتمتم بالعبارة بينه وبينَ نفسه وأنا آخذة
في الصعود منسحبة للخلف شيئاً فشيئاً , غريبٌ أبي ! , لمْ يكنْ يجبرنا على فعلِ شيءٍ في
السابقْ ! لكنه على الأغلب شعر بأنَ الغربة أخذت في سحبنا شيئاً فشيئاً وتعريتنا
منْ أنفسنا ! , فكرتُ في كلامهِ وحاولتُ أخذه على محملْ الجدْ , إلا أن التحايا
الإنجليزية كانتْ رفيقة لساني لفترة طويلة , لكوني أقضي جل وقتي في المدرسة
بينَ رفاقٍ غير مسلمينْ , لا يفهمون معنى السلامْ , و لأنني لمْ أكن أرغبْ
في ترديدها حتى لا أُتهمَ بالكوزمبوليتانية
في مجتمعْ مختلفْ الأديانْ ومساوٍ إلى حدْ ما بينَ اليهودِ والمسلمينْ ! .
هيذَي المملكة المتحدة ! , تُبهرني في كُل مرة
بتجربة جديدة , غيّرتني كثيراً منذّ وصولي , وضعتني في مواجهة مع نفسي , ومواجهة
مع الجميعْ , إكتشفتُ معها بأن تربيتي أقوى منْ أن تكسرها المغرياتْ , وأن حريتي
لا تتعدى سقفَ إيماني ! , وأننا لنْ نؤمنَ حتى نرى الكفر جهرة ! ونقف على مقربة
منهُ محدقينَ فيهْ ! بوجهْ صفق غيرَ مبالٍ بإغراءاتهْ ! .
ذاتَ حُبْ :
في رأس السنة الجديدة يكونُ على الناسْ هنا
تبادلْ البطاقاتْ , وهدايا العيدْ , ولأني تلقيتُ العديد من الهدايا في المدرسة ,
قررتُ بدوري أنْ أشتري و أهدي أصدقائي , فكرتُ في أنْ أبعث بطاقات معايدة لأصدقائي
من الجالية الليبية قبلَ غيرهمْ , وكان كذلكْ , كانتْ أول بطاقة مُهداة إلى فاروقْ
, فاروقْ لمْ يكنْ شاباً عادياً , تعرفتُ عليهِ في تجمع الجالية في عيد الفطرْ, كانَ
مفعماً بالحماسْ والتحررْ , أو هذا ما كانَ ظاهراً عليه ليس إلا ! , كتبتُ لهْ
بالإنجليزية بعضَ الكلمات التي منْ شأنها أنْ تسعدهْ , وربما تخفف عنهُ الحزنَ
الذي رافق غربته وعقد قرانهٌ عليها , وكانتْ الصدمة ! , حينَ مزقَ ورقة المعايدة
أمام ناظري صارخاً في وجهي بأننا مسلمونَ و لا ينبغي لنا الإحتفال بمثل هذه الأعيادْ
! , وأنّ منْ يتخذ من النصارى أولياء فهو منهمْ , وبينما هو آخذ في الصراخْ شردتُ أتابع تدلّي
القصاصاتْ نحو الأرضْ ورحيلها مع الريح , لمْ أركزْ في بقية حديثهْ ! ولمْ أنتبهْ لرحيلهْ إلا برحيلِ آخر قصاصة مُعلنة انهيار بهجة العيدْ , أغلقتُ باب المنزل ولا زال
الشرودُ مسيطراً عليّ , طوقتني علاماتْ الاستفهام , إستغربت لردة فعلهْ , شابُ
قضى جُلّ حياته في الغربة ينزعج من تصرف كهذا ؟! , و أنا ؟! , أنا كنت أحتفل به في الوطنْ
مع عدد منْ رفاقي , وكنا نتبادل رسائل المعايدة عبر الهواتف المحمولة , فلما ينزعج شابٌ مثله من تصرفِ كهذا وقدْ
اتيحت له فرصة الاحتفال به على أصولهْ ؟ , لمْ أكنْ لأفهم ردة فعلهْ قبل أنْ أعقد
مع تجربة الهوية صفقة منْ شأنها إثباتُ نفسي دون أنْ أكونَ مجبرة على إثباتْ ديني ,
ودونَ انْ أتهم بالمسكونية بجمعي لأكثر من ثقافة , حاولتُ جاهدة منع نفسي من
المخاطرة بعقدْ مثل هذه الصفقة ؛ فغالباً ما تكونُ ضحية هذا النوع من الصفقات معراة تماماً بلا دينِ ولا هوية ! , سابحة في الفراغْ
تعاني جُل الأمراضْ النفسية , تتخذ من التحررعذراً لها رغم أنّ التحرر فيروس يسكننا لفترة ثم يأخذ
مجراه باحثاً عن فريسة أخرى ..
ومع نهاية اليومْ ! وأنا أضع رأسي على
الوسادة ! عاهدت نفسي على أنْ أثبت لهُ العكسْ
! , وأن أجبره على الاعتذار ! ..
وإنْ لم يكنْ راضياً عنْ فعلتي فسيرضى ! رغم أنّي من اللذين يؤمنون بأن رضى الناس غاية لا تدرك ! إلا و أنها لا بد أن تّدرك
معهْ ! , وإلا فإنني سأخسر صفقتي ! وسأخسر نفسي ! .
- للقصة بقية ,, إلا انّي قررت تخليد هذه التجربة في كتابْ , علهُ يقع يوماً في جعبة إحداهنْ فتستفيدْ منْ تجربتي , أو في يد مغتربة تشاطرني يومياتي وتتقاطع معي في كثيرٍ من التفاصيلْ , أو في يد أحدكمْ ليتعرفَ عليّ عنْ قربْ ! .
مروةْ الأوجلي ..
تجربة 27 \ 11 \ 2008.
جَمِيـــلٌ هُوَ مَا خَطَّتْهُ يُمْــنَـــآآكْ
ردحذف