الأربعاء، 12 نوفمبر 2014

شهادة ( وفاء ) .

يقول أحد المفكرين : " إذا أردت أن تعرف مقدار حبك لشخص ما وأهميته عندك ، جرب أن تتخيل رحيله عن حياتك وأنظر كيف يستجيب جسدك لمخيلتك " .


12\11\2020 
4:48 ص

(1)

مضى اليوم على رحيلك ستُ سنواتٍ كاملة ، قابلتُ فيها أشخاصاً كُثر، وتخرجتُ من الجامعة بمعدل منخفض جداً ، لكن لم يكترث لي أحد ، فكل الذين ظننتهم يهتمون لأمري واصلوا حياتهم بعد فشلي بشكل طبيعي ، وداسوا على ظروفي وأحلامي وكأنني ما كُنت يوماً صديقة وعوناً ، وكأنّي ما قدمتُ لهم النُصح والفائدة .... صحيح أنّي تأخرتُ عن دفعتي الدراسية بعام كُنتَ قد رحلت فيه ، لكنّي في النهاية تخرجت ، وما زلتُ أبحث عن عمل، ولا أحد يرغبُ في توظيفي نظراً لمعدلي المنخفض ، لكن أعدك بأنّي سأستمر في البحث ! أو قد لا أستمر ، لربما تعود حينها وتخبرني كم أنّي ضعيفة ومهزومة فأراك مجدداً ، أو توبخني كعادتك فألمحك مرة أخرى في هذا العالم البائس ، رغم أنك دائماً ما كنت تبتسم حتى أثناء توبيخك لي لكنّ كُان بإمكاني رؤية الحرص في عينيك ، وكأن شيئاً ما في أعماقك يصرخ " تغيّري ولا تخذليني ، إعملي بنصيحتي دون نقاش ، أنا أفعل ذلك لمصلحتك " ، وكنتُ أتجاهل شعوري هذا دائماً حتى رحلت ! وليتني ما تجاهلت ، ومنحتك على الأقل فرصة التحكم في حياتي ولو لمرة ، فأهديك بها حياة أخرى وأزيد رصيدك من العمر، حتى عُمراً وهمياً ومجرد خيال ، لكن المهم أن أشعر بأنّي لم أخذلك يوماً كما لم تخذلني أبداً.

(2)

لم أتقبل فكرة موتك سريعاً ، وكنت أتجاهل هذه الحقيقة بقلة إيمان مُفرطة في البداية - رغم حرصي في السابق على الصلاة في وقتها - تخليتُ عن الوقت وعن الصلاة والذِكر وكدتُ أتخلى عن الله وأنسبُ له وحشية الموت وأنزع عنه صفة الحياة ، وأصرخ في وجه سجادتي وقبلتي قائلة : " لما أصلي وقد أخذ منّي الله صديقاً لا يتكرر ، ونحن الذي لم نكف سوياً عن عبادته وشكره وحمده ، لما أفعل ما يأمرني به وأقوم لأجله وطاعة له خمس مراتٍ في اليوم ، أتوضأ بالماء البارد ، وأطرح نفسي أمامه أتلو وأبتهل ولم يكلف نفسه عناء جبر قلبي وهو الذي يسمي نفسه الجبّار " ، أخذني حزني لحافة الكفر حينها وربما للكفر نفسه، وظللت على ذلك الحال لعامِ تقريباً ، تخليت فيه عن الإهتمام بنفسي وعائلتي وصديقاتي، تخليتُ عن بهجتي وألواني ! أصبح طلاء غرفتي فجأة باهتاً والنور نادراً ما يتسرب إليها حتى مع إصرار أمّي على تنظيفها وتهويتها، كنتُ أرى في النور حياة ، وفي النسمة حياة ، ولم أرد حينها الحياة ظناً مني بأني قد أكون ونسيتك في الموت ، أو يشفق عليّ الله فيأخذني إليك، مع أننا ربما لا نتقابل لأنك حتماً ستكون في الجنة ، ولن أكون فيها ... لكني سأغدو في المسافة أقرب إليك علّ الله يهبني رؤيتك لمرة أرجوك فيها بأن تفيض عليّ ببعض الماء ، وترجو أنت الله أن يغفر لي كما يفعل الخلّان في الآخرة . 

(3)

أصدقاؤك منافقون جداً ، وربما لم يكونوا أصدقائك ولم يهتموا يوماً بك  إلا ليستغلوك لمصالحهم وكنت بطيبة قلب تساعدهم، لم تكن غبياً كما كُنت أمازحك ، كُنت تدرك حقيقة أنهم ليسوا أصدقائك وأن لا صديق حقيقي لك ، لكن لم يمنعك ذلك عن مساعدتهم والوقوف معهم ! تُرى أكانت تلك طيبة منك ، أم طعنة أخرى في ذاكرتي تجبرني على البكاء أكثر والشعور بأن العالم قد فقد حقاً شخصاً لا يتكرر وتخلى فجأة على الأنقياء وكشر في وجهي ببشاعته دون إكتراث للرعب الذي كان يقذفه في قلبي، ولا للوهن الذي سكن جسدي ولا للمرض الذي أضعفني كثيراً .  أصدقاؤك إستمروا بعدك في الوقوف في نفس المكان ، والضحك بصوت مرتفع والحديث بشكل طبيعي ، وحده مستواهم الدراسي قد تراجع ليس حزناً عليك ! إنما لأن ما من أحد بعدك قد وهب جهده ووقته لتدريسهم، إنهم يستفزونني كثيراً، وعبثاُ يحاولون إخراجي من دائرة كآبتي لكنّي كُنت أفضل البقاء فيها على الإستماع لهم ، كُنت أشعر بالقرف منهم ! ومن كل محاولة استمرار ونسيان ، ذلك أنّ كُل محاولة للتخلي عن فكرة رحيلك وتقبلها كانت تُمثل بالنسبة لي محاولة خذلان وتنكر لك ، وكل محاولة إستمرار هي محاولة استئصال لذاكرتي ، لأن في ذاكرتي أيام جميلة ، وفيها أيضاً ضحكات طويلة ضحكناها سوياً ، وفيها قصص وعبر وحِكم وحكايات ، فكيف أتخلى عن كُل هذا لمجرد الرغبة في الإستمرار و الحياة ! ، أتعلم ؟ لتذهب الحياة إلى الجحيم ! إن لم تكن هي الجحيم في حد ذاته.

(4)

" كان يا مكان في قديم الزمان ، كانت هناك أميرة تعيش في قصر كبير ويحيط بها الجواري والخدم ، وكان هناك فارس شجاع بشعر طويل، يحمل سيفاً خارقاً يقضي به على التنانين المحيطة بالقصر ، واحداً تلو الآخر ، ويقضي به على الأشرار أيضاَ الذين كانوا يحيطون بالأميرة ، وعندما جُرح الفارس قامت الأميرة بمُعالجته ،وكمكافأة لها إستمر الفارس الشجاع في الدفاع عنها ..... " ، كان هذا جزءاً من قصة طلبتُ منك أن تحكيها لي ذات ليلة ، لم تكن جيداً في سرد القصص ولا في ربطها لكنها أفضل قصة سمعتها على الإطلاق ، كُنت أنا الأميرة ، وأنت الفارس ، لكن ليس كالأميرات والفرسان في القصص والحكايا ، فقد غلب علينا رابط الصداقة الذي هو أعمق وأقوى من أي رابط آخر. اظنّك ذكرت بأن الفارس كان وسيماً ، لكنك كنت بالتأكيد تمزح ههههـ ! ، أتعلم ؟! كنت وسيماً لكن ليس بدرجة كبيرة ، على الأقل عينيك كانتا جميلتين للغاية وبريئتين أيضاً ، بريئتين جداً ! رغم أنك لم تكن بريئاً أبداً ، ولم تحرص حتى على الظهور بالمظهر البرئ أمامي ، كُنت طبيعياً جداً معي ، وكنت طبيعية للغاية معك ، نتحدث بمطلق الحرية والاستهتار والوقاحة وكأننا لا نتحدث إلا مع انفسنا بذات الأسلوب المتهاون جداً دون تكلف، ونطرح أفكارنا البذيئة دون خجل أو حياء . 

(5)

لم أزر قبرك منذ مدة ، مدة طويلة جداً ، كُنت في كُل مرّة أزورك فيها أشكك ألف مرّة في حقيقة أن تكون تحت التراب ، وأشكُ في أن الإسم المكتوب على القبر لشخص آخر يشبهك ، فأسأل الحارس عن عُمرك ، وعن عائلتك ، وعن اليوم الذي دُفنت فيه رغم أنّي أراه مكتوباً أمامي ، لكن كانت تكفيني كذبة ، يكفيني أن يخبرني الحارس بتفاصيل لا تشبه رحيلك أبداً ، لكنه لم يكذب ! ولم يحاول حتى أن يقرأ الرجاء في عيني ، كلما أخبرني عن حادثة موتك أزداد حزناً وإنكساراً ، وكلما ذكر تفاصيل عمرك وعائلتك أزداد نواحاً وبكاءً ، في كُل مرّة كنتَ أزورك فيها أكرر ذات التصرف ، وأظن أنّ الحارس قد ملّ منْ سؤالي وصار يرمقني عند كل زيارة بنظرة شفقة بائسة تجعلني أتمنى لو أنه كان في القبر بدلاً منك دون أن أكترث لعائلته التي تنتظر عودته كُل مساء. لم يفهم الحارس يوماً بأنّي لستُ مجنونة ، لكنّي أعذره لأنه لا يعرفك ، لو كان يعرفك كما أعرفك أنا ؛ لجلس بجانبي وبكى، ولأستغل فترة مكوثه في المقبرة بالدعاء لك ورش الماء على قبرك الذي كثيراً ما كان يبدو شاحباً وجافاً رغم  حرصي في كل زيارة على الإهتمام به ، وتنبيه الحارس ليتفقد الزهور التي زرعتها حوله .

(6)  

أنت رحلتْ ، لكنك لم تفعل ذلك عمداً ، ولو أنك خُيرتَ بين رحيلك والبقاء بقربي لبقيت بقُربي حتى مع علمك بأن ما ينتظرك عند الله أفضل ، أنت رحلت وأنا اليوم سعيدة لأنك فعلت ، لأن الدنيا أصبحت قذرة للغاية ومظلمة للغاية وساد فيها حثالة البشر ، أنت رحلت لأن الله أحبك فرفعك إليه ، ورغم أنّي قد أخطأت كثيراً في حق الله إلا أنه لم يتخلى عني ، واحتجتُ لفترة طويلة لاستيعاب ما حدث ، أنت رحلت ... أتمنى بشدة أحياناً لو لم تفعل ... لكنّي اليوم مطمئنة أنك فعلت ... وراضية باختيار الله واكاد أستشعر حكمته من وراء ذلك ، .... أنت رحلت وأنا اليوم قد استعدت عافيتي تماماً وأعمل على تحقيق أحلامي وأحلامك ، وأحملك في ذاكرتي عند كُل سفر ، نزور سوياً الأمكان التي تحدثنا عنها ، ونرقص مع مختلف الشعوب ونأكل طعامهم كما حلمنا دائماً.... أنت رحلت لكنك لم تفعل حقاً ... ستظل في دفتر يومياتي وداخل قلبي حتى اللقاء. 

(7)

هذه ليست شهادة وفاة ، أنما شهادة وفاء .... لتتذكر أنك كُنت صديقاً رائعاً ... أحمد الله عليه كُل يومْ .